فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (10):

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَهْدًا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ مِهَادًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفِرَاشُ.
وَقَدْ ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ لِبَنِي آدَمَ مَهْدًا أَيْ فِرَاشًا، وَأَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا سُبُلًا أَيْ طُرُقًا لِيَمْشُوا فِيهَا وَيَسْلُكُوهَا، فَيَصِلُوا بِهَا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ. وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى جَعَلَ الْأَرْضَ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا الطُّرُقَ لِيَنْفُذُوا مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [71/ 19- 20]. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [21/ 31].
وَذَكَرَ كَوْنَ الْأَرْضُ فِرَاشًا لِبَنِي آدَمَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [51/ 48]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [2/ 22]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} الْآيَةَ [40/ 64].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [16/ 15].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَلَالَةِ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [2/ 22] مَعَ بَقِيَّةِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ فِي الْقُرْآنِ. وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [16/ 10]. وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَأَحَلْنَا عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ مَعْنَى الْإِنْشَاءِ وَالنُّشُورِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ اللُّغَاتِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِقَدَرٍ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِقَدَرٍ سَابِقٍ وَقَضَاءٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيْ بِمِقْدَارٍ يَكُونُ بِهِ إِصْلَاحُ الْبَشَرِ، فَلَمْ يَكْثُرِ الْمَاءُ جِدًّا فَيَكُونُ طُوفَانًا فَيُهْلِكُهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَلِيلًا دُونَ قَدْرِ الْكِفَايَةِ، بَلْ نَزَّلَهُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [23/ 18].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [15/ 21- 22].

.تفسير الآيات (12-13):

{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}.
الْأَزْوَاجُ الْأَصْنَافُ، وَالزَّوْجُ تُطْلِقُهُ الْعَرَبُ عَلَى الصِّنْفِ.
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا تَشْمَلُ أَصْنَافَ النَّبَاتِ وَبَنِي آدَمَ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [36/ 36].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [20/ 53].
وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [22/ 5]. أَيْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ مِنْ أَصْنَافِ النَّبَاتِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [31/ 10].
وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى الْأَصْنَافِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [38/ 58]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [20/ 131].
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةَ [37/ 22].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} الْآيَةَ [40/ 79]. وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ، وَقَوْلِهِ: إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ- رَاجِعٌ إِلَى لَفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.
يَعْنِي- جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ جَعَلَ لِبَنِي آدَمَ مَا يَرْكَبُونَهُ مِنَ الْفُلْكِ الَّتِي هِيَ السُّفُنُ، وَمِنَ الْأَنْعَامِ لِيَسْتَوُوا، أَيْ يَرْتَفِعُوا مُعْتَدِلِينَ عَلَى ظُهُورِهِ، ثُمَّ يَذْكُرُوا فِي قُلُوبِهِمْ نِعْمَةَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ الْمَرْكُوبَاتِ، ثُمَّ يَقُولُوا- بِأَلْسِنَتِهِمْ مَعَ تَفَهُّمِ مَعْنَى مَا يَقُولُونَ-: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَ} قَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعْنَاهُ بِإِيضَاحٍ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ- جَلَّ وَعَلَا- أَكْمَلَ التَّنْزِيهِ وَأَتَمَّهُ، عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا رَاجِعَةٌ إِلَى لَفْظِ مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرْكَبُونَ وَجَمَعَ الظُّهُورَ نَظَرًا إِلَى مَعْنَى مَا؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا عَامٌّ شَامِلٌ لِكُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهَا، وَلَفْظُهَا مُفْرَدٌ، فَالْجَمْعُ فِي الْآيَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا.
وَقَوْلُهُ: {الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} أَيِ الَّذِي ذَلَّلَ لَنَا هَذَا الَّذِي هُوَ مَا نَرْكَبُهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالسُّفُنِ؛ لِأَنَّ الْأَنْعَامَ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهَا اللَّهُ لَهُمْ لَمَا قَدَرُوا عَلَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمَلَ أَقْوَى مِنَ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ الْبَحْرُ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهُ لَهُمْ وَيُسَخِّرْ لَهُمْ إِجْرَاءَ السُّفُنِ فِيهِ لَمَا قَدَرُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أَيْ مُطِيقِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَقْرَنَ الرَّجُلُ لِلْأَمْرِ وَأَقْرَنَهُ إِذَا كَانَ مُطِيقًا لَهُ كُفُؤًا لِلْقِيَامِ بِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَقَرَنْتُ الدَّابَّةَ لِلدَّابَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا قَرَنْتَهُمَا فِي حَبْلٍ قَدَرْتَ عَلَى مُقَاوَمَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ أَضْعَفَ مِنْهَا فَتَجُرَّهَا; لِأَنَّ الضَّعِيفَ إِذَا لُزَّ فِي الْقَرَنِ، أَيِ الْحَبْلِ، مَعَ الْقَوِيِّ- جَرَّهُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، كَمَا قَالَ جَرِيرٌ:
وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ ** لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ

وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ وَقَدْ أَنْشَدَهُ قُطْرُبُ لِهَذَا الْمَعْنَى:
لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ مَا عَقِيلُ ** لَنَا فِي النَّائِبَاتِ بِمُقْرِنِينَا

وَقَوْلُ ابْنِ هَرْمَةَ:
وَأَقْرَنَتْ مَا حَمَلَتْنِي وَلَقَلَّمَا ** يُطَاقُ احْتِمَالُ الصَّدْيَادِ عَدُوِّ الْهَجْرِ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
رَكِبْتُمْ صَعْبَتَيْ أَشَرًا وَحَيْفًا ** وَلَسْتُمْ لِلصِّعَابِ بِمُقْرِنِينَا

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ السُّفُنِ وَالْأَنْعَامِ لَوْ لَمْ يُذَلِّلْهُ اللَّهُ لَهُمْ لَمَا أَقْرَنُوا لَهُ وَلَمَا أَطَاقُوهُ- جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ; قَالَ تَعَالَى فِي رُكُوبِ الْفُلْكِ: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [36/ 41- 42]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} الْآيَةَ [16/ 14]. وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ [45/ 12]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَُُ} الْآيَةَ [14/ 32]. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الْآيَةَ [2/ 164]. وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَسْخِيرِ الْأَنْعَامِ: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [36/ 72]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [22/ 36- 37]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ عِدْلًا وَنَظِيرًا، يَعْنِي الْأَصْنَامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا أَيْ وَلَدًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جُزْءًا يَعْنِي الْبَنَاتَ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْجُزْءَ النَّصِيبُ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَةِ الْأَنْعَامِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الْآيَةَ [6/ 136].
قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كَثِيرٍ هَذَا- رَحِمَهُ اللَّهُ- غَيْرُ صَوَابٍ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَجْعُولَ لِلَّهِ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ هُوَ النَّصِيبُ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ، وَالْمَجْعُولَ لَهُ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ عِبَادِهِ لَا مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ.
وَبَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَرْقٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَأَنَّ قَوْلَ قَتَادَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ الْعِدْلُ وَالنَّظِيرُ الَّذِي هُوَ الشَّرِيكُ- غَيْرُ صَوَابٍ أَيْضًا; لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْجُزْءِ عَلَى النَّظِيرِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
أَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْجَزَاءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدَ، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ خُصُوصَ الْإِنَاثِ- فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْآيَةِ.
وَإِطْلَاقُ الْجُزْءِ عَلَى الْوَلَدِ يُوَجَّهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْجُزْءَ مُرَادًا بِهِ الْبَنَاتُ، وَيَقُولُونَ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ الْبَنَاتِ، وَامْرَأَةُ مُجْزِئَةٌ، أَيْ تَلِدُ الْبَنَاتِ، قَالُوا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةً يَوْمًا فَلَا عَجَبَ ** قَدْ تُجْزِيءُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارَ أَحْيَانًا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:
زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً ** لِلْعَوْسَجِ اللَّدْنِ فِي أَبْيَاتِهَا زَجَلُ

وَأَنْكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ اللُّغَةَ قَائِلًا: إِنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الْعَرَبِ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ تَفْسِيرُ الْجُزْءِ بِالْإِنَاثِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْجُزْءَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ اسْمٌ لِلْإِنَاثِ، وَمَا هُوَ إِلَّا كَذِبٌ عَلَى الْعَرَبِ، وَوَضْعٌ مُسْتَحْدَثٌ مَنْحُولٌ، وَلَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى اشْتَقُّوا مِنْهُ أَجَزَأَتِ الْمَرْأَةُ ثُمَّ صَنَعُوا بَيْتًا وَبَيْتًا:
إِنْ أَجَزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ ** زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً

اهـ. مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ فِي اللِّسَانِ: وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يَعْنِي بِهِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ بَنَاتِ اللَّهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَمَّا افْتَرَوْا، قَالَ: وَقَدْ أَنْشَدْتُ بَيْتًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى جُزْءًا مَعْنَى الْإِنَاثِ؛ قَالَ- وَلَا أَدْرِي الْبَيْتَ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مَصْنُوعٌ-:
إِنْ أَجَزَأَتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلَا عَجَبَ الْبَيْتَ.
وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا، أَيْ جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ مِنَ الْوَلَدُُِ الْإِنَاثَ، قَالَ وَلَمْ أَجِدْهُ فِي شِعْرٍ قَدِيمٍ وَلَا رَوَاهُ عَنِ الْعَرَبِ الثِّقَاتِ، وَأَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدَتِ الْإِنَاثَ، وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ:
زَوَّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الْأَوْسِ مُجْزِئَةً الْبَيْتَ.
انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ اللِّسَانِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ الزُّجَاجِ أَنَّ قَوْلَهُمْ: أَجْزَأَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتِ الْإِنَاثَ- مَعْرُوفٌ؛ وَلِذَا ذَكَرَهُ وَذَكَرَ الْبَيْتَ الَّذِي أَنْشَدَهُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَالْمُسَلِّمِ لَهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ التَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ الْوَلَدُ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجُزْءِ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْوَلَدَ كَأَنَّهُ بِضْعَةٌ مِنَ الْوَالِدِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَأَمَّا كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْوَلَدِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْجُزْءِ فِي الْآيَةِ- خُصُوصُ الْإِنَاثِ، فَقَرِينَةُ السِّيَاقِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْجُزْءِ الْمَذْكُورِ لِلَّهِ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي أَنْكَرَهُ اللَّهُ إِنْكَارًا شَدِيدًا، وَقَرَّعَ مُرْتَكِبَهُ تَقْرِيعًا شَدِيدًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا إِلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [43/ 16- 18].
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ جُزْءًا بِضَمِّ الزَّايِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِإِسْكَانِهَا، وَحَمْزَةُ عِنْدَ الْوَقْفِ يُسْقِطُ الْهَمْزَةَ بِنَقْلِ حَرَكَتِهَا إِلَى الزَّايِ مَعَ حَذْفِ التَّنْوِينِ لِلْوَقْفِ.

.تفسير الآية رقم (16):

{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ}.
أَمْ هُنَا بِمَعْنَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ؛ فَالْكُفَّارُ لَمَّا قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ- أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، مُوَبِّخًا لَهُمْ أَشَدَّ التَّوْبِيخِ؛ حَيْثُ افْتَرَوْا عَلَيْهِ الْوَلَدَ، ثُمَّ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَحْقَرَهُمَا، وَهُوَ الْأُنْثَى، كَمَا قَالَ هُنَا: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ، وَهِيَ النَّصِيبُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَوْلَادِ، وَأَصْفَاكُمْ أَنْتُمْ، أَيْ خُصِّكُمْ وَآثَرَكُمْ بِالْبَنِينَ الَّذِينَ هُمُ النَّصِيبُ الْأَعْلَى مِنَ الْأَوْلَادِ.
وَإِنْكَارُ هَذَا عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَيْهِ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ هُنَا:
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} [43/ 17]. يَعْنِي الْأُنْثَى، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [16/ 58] يَعْنِي فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْإِنَاثَ وَأَنْتُمْ لَوْ بُشِّرَ الْوَاحِدُ مِنْكُمْ بِأَنَّ امْرَأَتَهُ وَلَدَتْ أُنْثَى لَظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، يَعْنِي مِنَ الْكَآبَةِ، وَهُوَ كَظِيمٌ، أَيْ مُمْتَلِئٌ حُزْنًا وَغَمًّا، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [43/ 18] فَفِيهِ إِنْكَارٌ شَدِيدٌ وَتَقْرِيعٌ عَظِيمٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ افْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ- جَلَّ وَعَلَا- الْوَلَدَ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ، الَّذِي لِنَقْصِهِ الْخُلُقِيِّ يَنْشَأُ فِي الْحِلْيَةِ- مِنَ الْحُلِيِّ، وَالْحُلَلِ وَأَنْوَاعِ الزِّينَةِ- مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ; لِيَجْبُرَ بِتِلْكَ الزِّينَةِ نَقْصَهُ الْخُلُقِيَّ الطَّبِيعِيَّ، وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى غَالِبًا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِحُجَّتِهَا وَلَا الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِهَا.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9]. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [16/ 57]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} [16/ 62]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [17/ 40]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [53/ 21- 22]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [37/ 149- 157].
وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [16/ 57]. وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ عَنِ الْأُنْثَى بِمَا ضُرِبَ مَثَلًا لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} الْآيَةَ [43/ 17]- ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَنَاتِ الْمَزْعُومَةَ يُلْزِمُ ادِّعَاؤُهَا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا يُشْبِهُ الْآخَرَ فِي صِفَاتِهِ.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ}.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ عِنْدَ الرَّحْمَنِ بِسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الدَّالِ، ظَرْفٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [7/ 206]. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَضَمِّ الدَّالِ، جَمْعُ عَبْدٍ، كَقَوْلِهِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} الْآيَةَ [25/ 63].
وَقَوْلُهُ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ أَشَهِدُوا بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ فَتْحِ الشِّينِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ أَأُشْهِدُوا. بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ مُحَقَّقَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَضْمُومَةٌ مُسَهَّلَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَقَالُوا: يُجْعَلُ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ أَلِفُ الْإِدْخَالِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَدْ ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَ مَسَائِلَ: الْأُولَى: أَنَّ الْكُفَّارَ افْتَرَوْا عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ إِنَاثٌ، زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ وَبَّخَهُمْ عَلَى ذَلِكَ تَوْبِيخًا شَدِيدًا وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ يَعْنِي هَلْ حَضَرُوا خَلْقَ اللَّهِ لَهُمْ فَعَايَنُوهُمْ إنَاثًا.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ شَهَادَتَهُمُ الْكَاذِبَةَ بِذَلِكَ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الْأَرْبَعُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا الْأُولَى مِنْهَا. وَهِيَ كَوْنُهُمُ اعْتَقَدُوا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا، فَقَدْ ذَكَرَهَا تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا} [17/ 40]. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} الْآيَةَ [53/ 27]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا} الْآيَةَ [37/ 149- 150]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، وَهِيَ سُؤَالُهُ تَعَالَى لَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ:
هَلْ شَهِدُوا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَحَضَرُوهُ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ خُلِقُوا إنَاثًا؟ فَقَدْ ذَكَرَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [37/ 150]. وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدِ الْكُفَّارَ خَلْقَ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} الْآيَةَ [18/ 51].
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الَّتِي هِيَ كَوْنُ شَهَادَتِهِمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ سَتُكْتَبُ عَلَيْهِمْ- فَقَدْ ذَكَرَهَا تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [82/ 10- 12]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [45/ 29]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [43/ 80]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [10/ 21]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ} الْآيَةَ [17/ 13، 14]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} [19/ 79].
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ كَوْنُهُمْ يُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَالْكُفْرِ، فَقَدْ ذَكَرَهَا تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [29/ 13]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [15/ 92- 93]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [43/ 44]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [16/ 56]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ الْكُفَّارِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ هُنَا، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [43/ 20]- هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى ظَاهِرِهِ كَلَامٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ أَنْ لَا يَعْبُدُوهُمْ مَا عَبَدُوهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [6/ 107]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [6/ 35]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الْآيَةَ [32/ 13]. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [6/ 149]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [10/ 99].
وَهَذَا الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ هُوَ بِعَيْنِهِ وَاقِعٌ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ، وَآيَةِ النَّحْلِ.
أَمَّا آيَةُ الْأَنْعَامِ فَهِيَ قَوْلُهُ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الْآيَةَ [6/ 148].
وَأَمَّا آيَةُ النَّحْلِ فَهِيَ قَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} الْآيَةَ [16/ 35].
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ الزُّخْرُفِ وَآيَةِ الْأَنْعَامِ وَآيَةِ النَّحْلِ- أَنَّ مَا قَالَهُ الْكُفَّارُ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ مَا عَبَدُوا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَلَا أَشْرَكُوا بِهِ شَيْئًا، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةِ قَرِيبًا- فَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ، أَنَّ اللَّهَ صَرَّحَ بِكَذِبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الَّتِي ظَاهَرُهَا حَقٌّ، قَالَ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [43/ 20]. أَيْ يَكْذِبُونَ، وَقَالَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [6/ 148]. وَقَالَ فِي آيَةِ النَّحْلِ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [16/ 35].
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ فِي جَعْلِ الشُّرَكَاءِ لَهُ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ مُرَادَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ، وَقَوْلِهِمْ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [6/ 148]- مُرَادَهُمْ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ- دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ رَاضٍ مِنْهُمْ بِالشِّرْكِ فِي زَعْمِهِمْ.
قَالُوا: لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ لَصَرَفَنَا عَنْهُ، فَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مُنْصَبٌّ عَلَى دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ، وَاللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- يُكَذِّبُ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [39/ 7].
فَالْكُفَّارُ زَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الرِّضَى، وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَهُوَ الَّذِي كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَيْثُ قَالَ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [43/ 21]. أَيْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا رَاضُونَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ هُوَ تَقْلِيدُ آبَائِهِمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [43/ 22]. أَيْ شَرِيعَةٍ وَمِلَّةٍ، وَهِيَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [43/ 22].
فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: {مُهْتَدُونَ} وَهُوَ مَصَبُّ التَّكْذِيبِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَرْضَى بِالِاهْتِدَاءِ لَا بِالضَّلَالِ.
فَالِاهْتِدَاءُ الْمَزْعُومُ أَسَاسُهُ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ الْأَعْمَى، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ قَرِيبًا- إِنْ شَاءَ اللَّهُ-.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ النَّحْلِ بَعْدَ ذِكْرِهِ دَعْوَاهُمُ الْمَذْكُورَةَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [16/ 36].
فَأَوْضَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَيَجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، أَيْ يَتَبَاعَدُوا عَنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ.
وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بَعْضَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالشَّقَاءُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [6/ 149].
فَمِلْكُهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لِلتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، هُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، يَعْنِي فَمَنْ هَدَيْنَاهُ وَتَفَضَّلْنَا عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ، فَهُوَ فَضْلٌ مِنَّا وَرَحْمَةٌ.
وَمَنْ لَمْ نَفْعَلْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ عَدْلٌ مِنَّا وَحِكْمَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْنَا، وَلَا وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْنَا، بَلْ إِنْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ فَعَدْلٌ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَعَلِمَ أَنَّ قَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى الشَّقَاءِ وَقَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى السَّعَادَةِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى الْجَمِيعِ بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَتَأْيِيدِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، فَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ بِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَفَّقَ مَنْ شَاءَ تَوْفِيقَهُ، وَلَمْ يُوَفِّقْ مَنْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ الشَّقَاءُ الْأَزَلِيُّ، وَخَلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَصَرَفَ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَاتِهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ إِلَى مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ، وَأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلشَّقَاءِ.
فَأَتَوْا كُلَّ مَا أَتَوْا وَفَعَلُوا كُلَّ مَا فَعَلُوا، طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ، غَيْرَ مَجْبُورِينَ وَلَا مَقْهُورِينَ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [76]. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [6/ 149].
وَادِّعَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ لَا إِرَادَةَ لَهُ ضَرُورِيُّ السُّقُوطِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الضَّرُورِيَّاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ بَيْنَ الْحَرَكَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْحَرَكَةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ- فَرْقًا ضَرْورِيًا، لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ.
وَأَنَّكَ لَوْ ضَرَبْتَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْخَلْقَ مَجْبُورُونَ، وَفَقَأَتْ عَيْنَهُ مَثَلًا، وَقَتَلْتَ وَلَدَهُ وَاعْتَذَرْتَ لَهُ بِالْجَبْرِ، فَقُلْتَ لَهُ: أَنَا مَجْبُورٌ وَلَا إِرَادَةَ لِي فِي هَذَا السُّوءِ الَّذِي فَعَلْتُهُ بِكَ، بَلْ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَنَا لَا دَخْلَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِلَا شَكٍّ.
بَلْ يُبَالِغُ فِي إِرَادَةِ الِانْتِقَامِ مِنْكَ قَائِلًا: إِنَّ هَذَا بِإِرَادَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَفْعَالِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ- أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُنْكِرَ عِلْمَ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ.
وَسَبْقُ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ قَبْلَ وُقُوعِهِ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ تِلْكَ الدَّعْوَى.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلْقَدَرِيِّ: إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ تَعَلَّقَ بِأَنَّكَ تَقَعُ مِنْكَ السَّرِقَةُ أَوِ الزِّنَا فِي مَحَلِّ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَرَدْتَ أَنْتَ بِإِرَادَتِكَ الْمُسْتَقِلَّةِ فِي زَعْمِكَ دُونَ إِرَادَةِ اللَّهِ أَلَّا تَفْعَلَ تِلْكَ السَّرِقَةَ أَوِ الزِّنَا الَّذِي سَبَقَ بِعِلْمِ اللَّهِ وُقُوعُهُ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ؟ وَتُصَيِّرَ عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدِّدِ لَهُ؟
وَالْجَوَابُ بِلَا شَكٍّ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [76]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [6/ 149].
وَلَا إِشْكَالَ أَلْبَتَّةَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، ثُمَّ يَصْرِفُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَإِرَادَتَهُ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ، فَيَأْتِيهِ الْعَبْدُ طَائِعًا مُخَتَارًا غَيْرَ مَقْهُورٍ وَلَا مَجْبُورٍ، وَغَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.
وَالْمُنَاظَرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ بَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ تُوَضِّحُ هَذَا.
وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ، يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا لَيْسَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ فِي زَعْمِهِ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّذَائِلُ بِمَشِيئَتِهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ.
فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَتَرَاكَ تَفْعَلُهُ جَبْرًا عَلَيْهِ، آنْتَ الرَّبُّ وَهُوَ الْعَبْدُ؟
فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَانِي إِلَى الْهُدَى، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدِيءِ، دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ دُونِي؟ أَتَرَاهُ أَحْسَنَ أَمْ أَسَاءَ؟
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي مَنَعَكَ إِنْ كَانَ حَقًّا وَاجِبًا لَكَ عَلَيْهِ- فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَقَدْ أَسَاءَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ الْمَحْضُ فَإِنْ أَعْطَاكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ مَنْعَكَ فَعَدْلٌ. فَبُهِتَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَقَالَ الْحَاضِرُونَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا جَوَابٌ.
وَمَضْمُونُ جَوَابِ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا الَّذِي أَفْحَمَ بِهِ عَبْدَ الْجَبَّارِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [6/ 149].
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِيَرُدَّهَا إِلَيْهِ.
فَقَالَ عَمْرٌو مَا مَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا; لِأَنَّكَ أَنْزَهُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُدَبِّرَ هَذَا الْخَنَا.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا هَذَا، إِلَّا مَا كَفَفْتَ عَنِّي مِنْ دُعَائِكَ هَذَا الْخَبِيثِ، إِنْ كَانَتْ سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلَا تُرَدُّ، وَلَا ثِقَةَ لِي بِرَبٍّ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاؤُهُ. فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَنْ آيَةِ الْأَنْعَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَفِي سُورَةِ الشَّمْسِ فِي الْكَلَامِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.